جيش الاحتلال- تجنيد المضطربين نفسيًا يكشف أزمة نقص الجنود في غزة.

المؤلف: د. مهند مصطفى08.31.2025
جيش الاحتلال- تجنيد المضطربين نفسيًا يكشف أزمة نقص الجنود في غزة.

أفادت تقارير إعلامية إسرائيلية بأن الجيش الإسرائيلي لجأ إلى توجيه جنود يعانون من مشكلات واضطرابات نفسية للمشاركة الفاعلة في العمليات القتالية الدائرة رحاها في قطاع غزة. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى كتاب الباحثة الإسرائيلية عيريت كينان، "كأنه كان جرحًا مستترًا"، الصادر في عام 2012، والذي يسلط الضوء على أن الاعتراف الرسمي بالاضطرابات النفسية وتداعيات صدمة الحرب في أوساط الجنود بدأ في الظهور والتنامي بشكل ملحوظ عقب حرب أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 1973.

ومنذ ذلك الحين، بدأ المجتمع الإسرائيلي ومؤسسته العسكرية في التعامل بجدية أكبر مع الاضطرابات النفسية التي تصيب الجنود، واعتبارها بمثابة إصابات حقيقية تستدعي الاهتمام والرعاية. وأصبح الجنود الذين يعانون من هذه الاضطرابات يُنظر إليهم على أنهم "جرحى"، تمامًا كالجنود الذين يتعرضون لإصابات جسدية متفاوتة الخطورة.

وفي هذا الإطار، تأسست في إسرائيل العديد من الهيئات والمؤسسات المدنية والحكومية والعسكرية المتخصصة في تقديم الدعم والعلاج للجنود الذين يعانون من اضطرابات نفسية، وحالات الصدمة، واضطرابات ما بعد الصدمة. وقد تم الاعتراف مؤخرًا باضطرابات ما بعد الصدمة في الأدبيات العلاجية للجيش الإسرائيلي، واعتبرت بمثابة جرح نفسي عميق يرافق الجنود الإسرائيليين ويؤثر سلبًا على مختلف جوانب حياتهم، سواء العملية أو الشخصية. وأصبح التقييم النفسي للأفراد معيارًا حاسمًا في تحديد مدى أهليتهم للخدمة العسكرية، سواء للإعفاء منها أو الاستمرار فيها، أو الالتحاق بصفوف الاحتياط في الجيش الإسرائيلي.

هذه المقدمة ضرورية لفهم المغزى من المعلومة الأساسية التي استهللنا بها هذا المقال، والتي تتحدث عن توجيه الجيش الإسرائيلي لجنود يعانون من اضطرابات نفسية للمشاركة في الخدمة العسكرية. وهذا الإجراء يعكس بوضوح حجم الأزمة والتحديات التي يواجهها الجيش الإسرائيلي في مسألة تجنيد جنود للمشاركة في العمليات العسكرية المتواصلة في قطاع غزة وجبهات أخرى.

وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن هناك حاجة ماسة إلى مقال منفصل ومتعمق لتحليل الأسباب والدوافع الكامنة وراء تفشي الاضطرابات النفسية في صفوف الجنود الإسرائيليين. هل هي نابعة من مشاهد القتل المروعة للمدنيين الفلسطينيين، وخاصة الأطفال الأبرياء؟ أم أنها تعود إلى فقدان رفاق السلاح في الوحدات العسكرية، والذكريات الأليمة المرتبطة بذلك؟ أم أنها نتيجة لحالة الخوف والقلق المستمر التي تنتابهم بسبب طبيعة العمليات العسكرية في قطاع غزة؟ هذه التساؤلات تحتاج إلى الكثير من البحث والتدقيق والتحليل المتأني، ولكنها تخرج عن نطاق هذا المقال.

إن سعي الجيش الإسرائيلي الحثيث لتجنيد جنود للمشاركة في الخدمة العسكرية في خضم العدوان المستمر على غزة، دفعه إلى اتخاذ قرار بفرض شروط أكثر صعوبة وتعقيدًا على التحرر من الخدمة العسكرية بسبب الحالات النفسية.

وتشير البيانات والإحصائيات الصادرة عن الجيش الإسرائيلي إلى أن واحدًا من كل ستة جنود يتسربون من الخدمة العسكرية ولا يستكملون خدمتهم الإلزامية التي تمتد لثلاث سنوات. ويعزى حوالي 50% من أسباب هذا التسرب إلى مشاكل واضطرابات نفسية تظهر خلال الفحص الطبي الدوري الذي يجرى للجنود. وفي عام 2023 وحده، وصل عدد الجنود الذين تسربوا من الجيش بسبب مشاكل نفسية إلى حوالي 16.5%.

ومن اللافت للنظر أن الجيش الإسرائيلي لم يعر هذه الظاهرة الاهتمام الكافي في السابق، وكان يتسم بالتساهل والمرونة في التعامل مع التصنيف الطبي العسكري المتعلق بالمشاكل النفسية التي تسمح للجنود بعدم إكمال الخدمة العسكرية.

ولكن، وبسبب الحرب المستمرة على غزة والنقص الحاد في أعداد الجنود، قرر الجيش فرض قيود وشروط قاسية على التصنيف الطبي الذي يسمح للجنود بالإعفاء من الخدمة. كما لجأ إلى توجيه جنود سبق لهم الخدمة في الحرب على غزة ويعانون من مشاكل نفسية، للعودة إلى الخدمة مرة أخرى في الجيش.

تؤكد هذه الحالة بما لا يدع مجالاً للشك حاجة الجيش الإسرائيلي الماسة للجنود بأي ثمن، وبغض النظر عن حالتهم النفسية. وفقط بعد الضغوط الاجتماعية المتزايدة على الجيش، تراجع عن قراره المثير للجدل بتجنيد الجنود الذين يعانون من اضطرابات نفسية والذين خدموا قبل ذلك في الحرب. وكان الجيش قد أعد مسارات خاصة لتأهيل هؤلاء الجنود للعمل العسكري في غزة، ولكنه تراجع عن ذلك لأسباب عديدة، أهمها الضغط الشعبي المتزايد عليه، وتجنب إظهاره بأنه يتخلى عن تجنيد المتدينين اليهود (الحريديم)، وفي المقابل يزيد العبء على جنود خدموا في الحرب وصُنفوا كجنود ذوي اضطرابات نفسية، والذين يعتبرون كجنود جرحى، حسب التّصنيف الطبي العسكري.

تكشف هذه القضيّة- على الرّغم من تراجع الجيش عنها ظاهريًا- عن حاجة الجيش الماسة للجنود، حيث أن معدّل التزام جنود الاحتياط يصل في بعض الوحدات إلى 50% فقط، والفرق العسكرية الخمس الفاعلة في قطاع غزّة لا تعمل بكامل عديدها العسكريّ من الجنود، وهنالك عبء كبير بدأ يظهر في صفوف الجنود النظاميين الذين يتواجدون في الجبهات المختلفة.

ومن أجل التغطية والتستر على الأزمة المستفحلة في منظومة الاحتياط، يحاول الجيش إرسال أوامر استدعاء قليلة، مما يؤكد أن نسبة عدم الالتزام هي أكبر بكثير من النسبة المعلنة رسميًا.

وتشير معطيات الجيش ذاته إلى أن 85% فقط من قوات الاحتياط التزمت بالخدمة في العام 2024، وأدّى ذلك إلى ارتفاع هائل بنسبة 1500% في عدد الأيام التي خدم بها الجنود والضبّاط خلال العام الماضي، حيث وصل معدّل عدد الأيام للجنود إلى 136 يومًا، وللضبّاط إلى 168 يومًا.

يدرك الجيش الإسرائيلي تمام الإدراك معضلة قوّات الاحتياط، ولذلك استدعى وحدات قليلة منها فقط في هذه المرحلة الحرجة لاستبدال القوات النظامية المتمركزة في سوريا ولبنان والضفة الغربية، والتي ستنتقل بدورها للقتال في قطاع غزّة.

إن التوجه لتجنيد جنود ذوي اضطرابات نفسية، وتعقيد شروط التحرّر من الخدمة بسبب مشاكل نفسية، يكشفان عن جانب آخر بالغ الأهمية من الأزمة العميقة التي يعاني منها الجيش الإسرائيلي والتي تجلت بوضوح خلال الحرب على غزة، وهي أزمة تتطور وتتعمق باستمرار مع غياب الشرعيّة الاجتماعية عن العمليات العسكرية في غزة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة